عدد المساهمات : 1546 تاريخ التسجيل : 08/12/2012 العمر : 64
عاش الإنسان منذ بداية نشأة الكون عبر ملايين السنين، باحثاً عن الاستقرار، والأمان، جارياً وراء الراحة التي تعطيه الاتزان، فمنذ تلك الأزمان وهو ينشد الطمأنينة له ولأبنائه.. فهو يسعى لتخفيف عبء الحياة عن كاهله.. ولما ازدادت الحياة تعقيداً وقوة وتوسعت وازدادت مطالبها وحاجاتها، ازدادت الضغوط الواقعة عليه لتلبية تلك المطالب.. فلا يستطيع التوقف عن مجاراة ذلك، لأنه سيتخلف عن اللحاق بها، مما اضطره إلى مواكبة التسارع لتحقيق الرغبات والمطالب، هذا الإسراع زاده مرة أخرى من الضغط على النفس وتحميلها أكثر من طاقتها بغية اللحاق بموكب التحضر بكل ما يحمله من قسوة ورخاء.. فالحضارة تحمل معها رياح التغيير، والتغيير يحمل معه التبديل في السلوك، وينتج عنه بعض الانحرافات، وهي بالتالي نتاج الحضارة.
إن الضغوط بكل أنواعها هي نتاج التقدم الحضاري المتسارع الذي يؤدي إلى إفراز انحرافات تشكل عبئاً على قدرة ومقاومة الناس في التحمل.. فرياح الحضارة تحمل في طياتها آفات تستهدف النفس الإنسانية. وزيادة التطور تحمّل النفس أعباءً فوق الطاقة.. وينتج عنها زيادة في الضغوط على أجسامنا، مما ينعكس على الحالة الصحية (الجسدية - البدنية) والنفسية العقلية ويؤدي إلى الانهيار ثم الموت.
إن الإنسان المعاصر ينجح في استيعاب النمو المتسارع لمتطلبات الحضارة، لكنه يخسر بالنتيجة قدرته الجسدية والنفسية ومقاومته في التحمل.. مما يؤدي إلى استنزاف تلك الطاقة وتدميرها.. ويعني ذلك تدمير الذات.
في هذا الموضوع سنتعرض إلى الضغوط الحياتية بأنواعها: النفسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الأسرية، المهنية، الدراسية، العاطفية. وآثارها المتوقعة في حالة عدم وجود وسيلة أو آلية للتخفيف منها، كذلك التطرق إلى الضغوط الداخلية والخارجية ومكوناتها، وظروف نشأتها، ثم آثارها على الصحة الجسدية والنفسية..
إن أساليب التعامل مع الضغوط بنوعيها الشعورية (التي يتحكم بها الإنسان) واللاشعورية (التي لا يستطيع أن يتحكم بها الإنسان) تهدف أساساً إلى إحداث التوازن ومحاولة التخفيف من شدة تلك الضغوط، وهي استجابات يلجأ إليها الكائن البشري سعياً إلى الراحة، وإلى حالة الاتزان، ومن تلك الأساليب:
إن إنسان هذا العصر، يعيش الضغوط بأشكالها، لذا سمي عصرنا بعصر الضغوط وفي هذا الموضوع نوجه دعوة صادقة للوقوف مع الذات ومشاهدتها عن قرب، ليرى الإنسان ما له وما عليه، ليبدأ من الآن إصلاح ما يمكن إصلاحه وإيقاف الاستنزاف باللجوء إلى الأسلوب الذي يناسب حالته النفسية والشخصية قبل أن يصل إلى حالة الانهيار.
تـعــــــــــــريف الضغــــــــوط
STRESS
الضغوط مفهوم يشير إلى درجة استجابة الفرد للأحداث أو المتغيرات البيئية في حياته اليومية، وهذه المتغيرات ربما تكون مؤلمة تحدث بعض الآثار الفسيولوجية. مع أن تلك التأثيرات تختلف من شخص إلى آخر تبعاً لتكوين شخصيته وخصائصه النفسية التي تميزه عن الآخرين، وهي فروق فردية بين الأفراد.
يعرّف (سيلي Sely ) الضغوط: بأنها مجموعة أعراض تتزامن مع التعرض لموقف ضاغط.
وعرفها (ميكانيك) بأنها تلك الصعوبات التي يتعرض لها الكائن البشري بحكم الخبرة والتي تنجم عن إدراكه للتهديدات التي تواجهه.
أما (إبراهيم) فيرى: أنها تغير داخلي أو خارجي من شأنه أن يؤدي إلى استجابة انفعالية حادة ومستمرة (إبراهيم: 118).
إن هذا المفهوم الذي شاع استخدامه في علم النفس والطب النفسي، تمت استعارته من الدراسات الهندسية والفيزيائية، حينما كان يشير إلى (الإجهاد Strain، والضغط Press، والعبء Load).
هذا المفهوم استعاره علم النفس في بداية القرن العشرين عندما انفصل عن الفلسفة وأثبت استقلاليته كعلم له منهج خاص به. وأيضاً جرى استخدامه في الصحة النفسية والطب النفسي على يد (هانز سيلي) الطبيب الكندي في العام 1956م عندما درس أثر التغيرات الجسدية والانفعالية غير السارة الناتجة عن الضغط والإحباط والإجهاد.
أنـــــــواع الضغـــــوط
تشكل الضغوط النفسية الأساس الرئيس الذي تبنى عليه بقية الضغوط الأخرى، وهو يعد العامل المشترك في جميع أنواع الضغوط الأخرى مثل: الضغوط الاجتماعية، ضغوط العمل (المهنية)، الضغوط الاقتصادية، الضغوط الأسرية، الضغوط الدراسية، الضغوط العاطفية.
إن القاسم المشترك الذي يجمع كل الضغوط هو الجانب النفسي، ففي الضغوط الناجمة عن إرهاق العمل ومتاعبه في الصناعة، أولى نتائجه الجوانب النفسية المتمثلة في حالات التعب والملل اللذين يؤديان إلى القلق النفسي حسب شدة أو ضعف الضغط الواقع على الفرد..وآثار تلك النتائج على التكيف في العمل والإنتاج، فإذا ما استفحل هذا الإحساس لدى العامل في عمله، فسوف تكون النتائج: التأثير على كمية الإنتاج، أو نوعيته، أو ساعات العمل، مما يؤدي إلى تدهور صحة العامل الجسدية والنفسية.. ومن أولى تلك الأعراض، هي زيادة الإصابات في العمل والحوادث، وربما تكون قاتلة فضلاً عن زيادة الغياب أو التأخر عن العمل، وربما يصل إلى الانقطاع عنه وتركه نهائياً.
أما الضغوط الاقتصادية، فلها الدور الأعظم في تشتيت جهد الإنسان وضعف قدرته على التركيز والتفكير وخاصة حينما تعصف به الأزمات المالية أو الخسارة أو فقدان العمل بشكل نهائي، إذا ما كان مصدر رزقه، فينعكس ذلك على حالته النفسية، وينجم عن ذلك عدم قدرته على مسايرة متطلبات الحياة.
وتعد الضغوط الاجتماعية الحجر الأساس في التماسك الاجتماعي والتفاعل بين أفراد المجتمع. فمعايير المجتمع تحتم على الفرد الالتزام الكامل بها، والخروج عنها يعد خروجاً على العرف والتقاليد الاجتماعية.
إن الضغوط الأسرية تشكل بعواملها التربوية ضغطاً شديداً على رب الأسرة وأثراً على التنشئة الأسرية، فمعظم الأسر التي يحكمها سلوك تربوي متعلم ينتج عنه التزام وإلا اختل تكوين الأٍسرة وتفتتت معايير الضبط ونتج عنه تفكك الأسرة إذا ما اختل سلوك رب الأسرة أو ربة البيت.
وتشكل الصعوبات الدراسية على طالب المدرسة في مختلف المراحل الدراسية ضغطاً شديداً في حالة عدم استجابته للوائح المدرسة أو المعهد أو الكلية، فهو مطالب بأن يحقق النجاح في الدراسة، لإرضاء طموحه الشخصي الذاتي أولاً، ورد الجميل لأسرته التي خصصت من دخلها المادي كنفقات الدراسة ثانياً فضلاً عن المؤسسة التعليمية التي صرفت الأموال المتمثلة في مستلزمات الدراسة كتوفير المدرسين المتخصصين والاحتياجات المادية العلمية في العملية التعليمية..
أما الضغوط العاطفية بكل نواحيها، النفسية، الانفعالية، فإنها تمثل لبني البشر واحدة من مستلزمات وجوده الإنساني. فالعاطفة لدى الإنسان غريزة اختصها الله عند البشر دون باقي المخلوقات. فعندما يعاق الإنسان في طلب الزواج والاستقرار العائلي بسبب الحاجة الاقتصادية أو عدم الاتفاق مع شريك الحياة وتتعثر جهوده في الاستقرار الزوجي، يشكل ذلك ضغطاً عاطفياً، تكون نتائجه نفسية، مما يجعله يرتبك في حياته اليومية وتعامله وفي عمله أيضاً.. إلى أن يجد الحل في التوصل إلى تسوية مشاكله..
وتشكل مشكلات عدم الاتفاق بين الزوجين، أو صعوبة اختيار شريك الحياة، أو مشكلة الانفصال بين الزوجين، مشكلات عاطفية يبحث الإنسان عن حلول لها.
كيف تتكون الضغوط
قد تنشأ الضغوط من داخل الشخص نفسه، وتسمى ضغوطاً داخلية، أو قد تكون من المحيط الخارجي، مثل العمل، العلاقة مع الأصدقاء والاختلاف معهم في الرأي، أو خلافات مع شريك الحياة، أو الطلاق، أو موت شخص عزيز، أو التعرض لموقف صادم مفاجئ.. تسمى ضغوطاً خارجية.
وعلى العموم فإن الضغوط سواء أكانت داخلية المنشأ نتيجة انفعالات أو احتباسات الحالة النفسية وعدم قدرة الفرد على البوح بها وكبتها، أو ضغوطاً خارجية متمثلة في أحداث الحياة، فإنها تعد استجابات لتغيرات بيئية.
فأحداث الحياة اليومية تحمل معها ضغوطاً يدركها الإنسان عندما يساير باستمرار المواقف المختلفة في العمل أو التعاملات مع الناس أو المشكلات التي لا يجد لها حلولاً مناسبة، أو تسارع أحداث الحياة ومتطلباتها، وهي تحتاج إلى درجة أعلى من المسايرة لغرض التوافق النفسي، وربما يفشل في هذه الموازنة الصعبة، فحتى أسعد البشر تواجههم الكثير من خيبة الأمل والصراعات والإحباط والأنواع المختلفة من الضغوط اليومية، ولكن عدداً قليلاً منهم نسبياً، هم الذين يواجهون الظروف القاسية (دافيدوف: 616).
يتعرض الإنسان للضغوط المختلفة باستمرار ويستطيع أن يعيد توازنه بشكل سريع حال انتهاء الموقف الضاغط أو مدى قدرته على المواجهة والمطاولة في التحمل، فالشخصية الإنسانية ذات خصائص يتميز بعضها عن البعض الآخر، فبعض العوامل الضاغطة تشكل عبئاً على أنماط معينة من الشخصيات، في حين تستطيع أنماط أخرى تحملها ومن ثم تصريفها بالشكل الذي لا يترك أثراً لدى الفرد، وأيضاً تتدخل المكونات البيولوجية في قدرة التحمل وقوة أجهزة الفرد البدنية.
تحديد الضغوط وقياسها
يقاس الضغط النفسي عند الإنسان بعدة وسائل أو أدوات، ومن تلك الأدوات، أدوات القياس النفسي المستخدمة لدى المختصين في موضوع القياس النفسي أو الإكلينكي. وتكون تلك الأداة إما مكتوبة؛ أي عن طريق الإجابة على بعض الأسئلة، ثم تحسب الإجابات لتستخرج نسبة الإجهاد أو كمية الضغوط الواقعة على الفرد، أو يقاس بواسطة أجهزة عملية تقيس التوازن الحركي - العقلي أو قوة الانفعالات وشدتها، ومن الأدوات الشائعة الاستخدام المقاييس المكتوبة.. ونستعير من مقياس هولمز وداهي بعض الفقرات التي تدل على وجود ضغوط معينة:
1- وفاة القرين (الزوج أو الزوجة).
2- الطلاق.
3- الانفصال عن الزوج أو الزوجة.
4- حبس أو حجز أو سجن أو ما أشبه ذلك.
5- موت أحد أفراد الأسرة المقربين.
6- فصل عن العمل.
7- تغير في صحة أحد أفراد الأسرة (بعض الأمراض المزمنة).
8- تغير مفاجئ في الوضع المادي.
9- وفاة صديق عزيز.
10- الاختلافات الزوجية في محيط الأسرة.
11- سفر أحد أفراد الأسرة بسبب الدراسة أو الزواج أو العمل.
12- خلافات مع أهل الزوج أو الزوجة.
13- التغير المفاجئ في السكن أو محل الإقامة.
14- تغير شديد في عادات النوم أو الاستيقاظ.
يشعر الشخص ببعض الإنذارات التي تعطي مؤشراً باتجاه وجود ضغوط مرتفعة أو حالات من الإجهاد، ويستلزم إزاء هذه الإنذارات اتخاذ بعض الإجراءات لخفض التوتر أو الضغوط لكي لا تتحول عند استمرارها لفترة طويلة إلى حالات مرضية. وهذه الإنذارات:
- اضطرابات النوم.
- اضطرابات الهضم.
- اضطرابات التنفس.
- خفقان القلب.
- التوجس والقلق على أشياء لا تستدعي ذلك.
- أعراض اكتئابية.
- التوتر العضلي والشد.
- الغضب لأتفه الأسباب.
- التفسير الخاطئ لتصرفات الآخرين ونواياهم.
- الإجهاد السريع.
- تلاحق الأمراض والتعرض للحوادث (إبراهيم: 123).
الضغوط والأمراض النفسية
إذا كانت نشأة الأمراض النفسية في مراحل الطفولة أو احتمالات امتدادها إلى المراحل العمرية اللاحقة، وإذا ما كان هناك خلل أو اضطراب في الجهاز النفسي بسبب عدم القدرة على التكيف أو حالة من الوهن أو زيادة غير اعتيادية في الوساوس، أو زيادة في القلق أو اضطرابات هستيرية تعتري الإنسان، فإن الضغوط تزيد من وطأة تلك الأعراض المرضية وتساعد إلى حد كبير في تخلخل التوازن النفسي، فيقع الإنسان صريع المرض، بفعل شدة الضغوط، ووجود حالة من التهيؤ النفسي الداخلي للمرض، فالعلاقة إذن تبادلية بين الضغوط والأمراض النفسية. خاصة إذا ما عرفنا أن الضغوط الداخلية هي: التهيؤ النفسي (الاستعداد) لقبول المرض - ضعف المقاومة الداخلية.
أما الضغوط الخارجية فهي: صعوبات في التعامل مع المحيط الاجتماعي، وعدم القدرة على مواجهة المشكلات وتحمل الصدمات مثل الخسائر المادية، أو موت شخص عزيز.. الخ، وهذه الضغوطات بدورها تسبب بعض الإعياء ثم الإجهاد العصبي والتعب الشديد الذي يصل أحياناً إلى حد الموت، فضلاً عن احتمالات الإصابة ببعض الأمراض العضوية ذات المنشأ النفسي (اضطرابات نفسجسمية - سايكوسوماتية) مثل التغيرات الكيميائية والحيوية في الدم، ارتفاع ضغط الدم، مرض السكري، والقرح الدامية، وغيرها.
ويشير جارلس وورث وناثان بأن 75% من المرضى المراجعين للأطباء يشكون أمراضاً ناتجة عن الضغوط وتنحصر تلك الأعراض في القلق، الشعور بالذنب والخوف، الاكتئاب، الخوف من المستقبل، العدوانية الزائدة تجاه الآخرين، اليأس والانطواء والانسحاب، فقدان الثقة بالنفس إضافة إلى المشكلات النفسجسمية.
إن التعرض للمواقف الصعبة التي ربما تستمر زمناً ليس قليلاً لا يسبب القلق المزمن فحسب، بل يحدث تغييراً في معدلات المرض وقد يؤدي إلى الوفاة في بعض الأحيان. هذا وتعجل الأنواع المختلفة للضغوط بظهور بعض الاضطرابات السلوكية وخاصة إذا كانت الضغوط شديدة، أما إذا كانت الضغوط خفيفة، فإن الأفراد من ذوي الاستعداد المرضي أو من الذين نشأوا في ظروف صعبة فإنهم سيعانون طويلاً من بعض الاضطرابات وحالات من التوتر والضيق.
استجابة الإنسان للضغوط الخارجية
تعد الضغوط الداخلية أو الخارجية مثيرات لابد أن يستجيب لها الإنسان استجابات مختلفة تبعاً لخصائصه من جهة وطبيعة تلك الضغوط وشدتها من جهة أخرى ويمكننا تقسيم الاستجابات إلى:
1- استجابات إرادية:
وهي تلك التي يعيها الفرد، ويشعر إزاء وقوعها برد فعل مثل استجابته بتخفيف ملابسه عند الإحساس بارتفاع درجة الحرارة أو ارتداء ملابس أخرى عند الإحساس بالبرد.
2- استجابات لا إرادية:
وهي ردود فعل بعض أجهزة الجسم التي يصعب التحكم بها مثل الارتجاف عند التعرض لموقف لا يستطيع التحكم فيه، أو التعرق بسبب الخجل ويمكن تقسيم الاستجابة إلى:
* عضوية:
مثل التنبيهات الهرمونية وإفرازات بعض الغدد وفعاليات الجهاز السمبثاوي المسؤول عن أمن الجسم تلقائياً من حيث السيطرة على جميع أجهزته الحيوية اللاإرادية مثل الجهاز الدوري والتنفسي وجهاز الغدد والجلد الذي يعمل وقت تعرض الجسم للخطر (ضغط خارجي أو داخلي) وهو يعلن ما يشبه حالة الطوارئ وذلك بتجهيز طاقاته ووضعها في أعلى درجات الاستعداد، وكذلك الجهاز الباراسمبثاوي، حيث العمل بالاتجاه المعاكس للسمبثاوي بإبطاء أو كف عمل بعض أجهزة الجسم. (زهران: 102).
* نفسية:
كافة الاستجابات التي يتحكم أو لا يتحكم بها الفرد في الموقف المحدد وهي:
أولاً: العمليات المعرفية..
والتي تمثل العمليات العقلية مثل التفكير بمعطيات الضغط ومسبباته، وكذلك تقييم الضغط الموجود ثم الوصول إلى معرفة الضغوط دون القيام بفعل ما.
* السلوكية:
وهي الاستجابات التي يلجأ إليها الفرد تحت وطأة الضغوط، تلك الاستجابات التي يمكن ملاحظتها. والاستجابة للضغوط لا تقتصر على الكائن البشري، بل إنها موجودة عند الحيوانات أيضاً. لذا فإن أي ضغوط يتعرض لها الإنسان لا تؤثر في أجهزة الجسم كلها، بل على قسم منها، إذ قد يتأثر أحدها بشدة، بينما لا يكاد يتأثر الآخر أبداً. وعندما يتعرض الإنسان لضغط ما فإنه يمر بثلاث مراحل هي:
الأولى: رد فعل للأخطار. حيث يقوم الجهاز العصبي السمبثاوي والغدد الأدرينالينية بتعبئة أجهزة الدفاع في الجسم، إذ يزداد إنتاج الطاقة إلى أقصاه لمواجهة الحالة الطارئة ومقاومة الضغوط، وإذا ما استمر الضغط والتوتر انتقل الجسم إلى المرحلة الثانية.
الثانية: المقاومة: عندما يتعرض الكائن للضغوط يبدأ بالمقاومة وجسمه يكون في حالة تيقظ تام، وهنا يقل أداء الأجهزة المسؤولة عن النمو، وعند الوقاية من العدوى تحت هذه الظروف، وبالتالي سيكون الجسم في حالة إعياء وضعف ليتعرض لضغوط من نوع آخر هي الأمراض.
وإذا ما استمرت الضغوط الأولى وظهرت ضغوط أخرى (الأمراض) انتقل إلى المرحلة الثالثة.
الثالثة: الإعياء: لا يمكن لجسم الإنسان الاستمرار بالمقاومة إلى ما لا نهاية، إذ تبدأ علامات الإعياء بالظهور تدريجياً وبعد أن يقل إنتاج الطاقة في الجهاز العصبي السمبثاوي يتولى الجهاز العصبي الباراسمبثاوي الأمور فتتباطأ أنشطة الجسم وقد تتوقف تماماً. وإذا ما استمرت الضغوط يصبح من الصعوبة التكيف لها لتؤدي إلى اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب أو أمراض جسمية تصل حد الموت.
ضغــــــــوط العمــــــل
شكلت حوادث وإصابات العمل أولى الدراسات التي اهتمت بالعامل ومعرفة أسبابها، وقد وجدت الدراسات أن الضغوط النفسية الناجمة من ضغوط العمل أدت في معظمها إلى الإصابات والحوادث في مجال الصناعة، فضلاً عن الظروف الفيزيقية (الإضاءة، قلة التهوية، زيادة الضوضاء، الأبخرة والأدخنة في مكان العمل.. الخ) زادت في نسب الضغوط على العامل.
إن الظروف الداخلية لدى العامل هي السبب الفعّال في التعرض للإصابة بالإضافة إلى الظروف الخارجية في العمل (علاقات العمل، أجور العمل، وسائط نقل العمال.. الخ) والظروف الفيزيقية (الحرارة، التهوية، الإضاءة، الضوضاء) كل تلك مجتمعة تسبب ضغوطاً عالية تعيق إنتاجية العامل وتؤدي إلى بعض الحوادث والإصابات في مجال العمل الصناعي، وربما يقود بعضها إلى أمراض وإصابات جسدية ونفسية.
لقد أثبتت بعض الدراسات العلمية أن تزويد مكاتب الموظفين وصالات العمل بالمصانع بأجهزة تكييف الهواء قد قلل من نسبة الإصابة عند الموظفين والعمال. كذلك أكدت التجارب أن زيادة الضوضاء تؤدي إلى الإضرار براحة الأفراد مما يدفعهم إلى الملل والضجر وعدم القدرة على التركيز، ويؤدي ذلك إلى خفض إنتاجهم، وقد يتسبب عن الضوضاء في بعض الحالات صمم وإجهاد نفسي أو اضطراب عصبي نتيجة للتوتر الذي تسببه الضوضاء. (جرجس: 217).
لم يشكل العمل إلى وقت قريب أية مشكلة على العامل إلا بعد أن تعقدت قدرة المصانع على التشغيل واتسعت وترامت على مساحات واسعة، وأصبح التوتر والإجهاد مرادفاً لعمل المصانع الواسعة، وظهرت أعراض مرضية مختلفة اختصت في شريحة معينة من المجتمع، وهي العمال وسميت هذه الأمراض بالأمراض المهنية، وبضمنها الضغوط.
وقد نتجت عنها زيادة ساعات العمل ومطالبة إدارات المصانع بزيادة الإنتاج وتحسين نوعيته، كل ذلك على حساب صحة العامل مما أدى إلى ظهور حالات الضغوط المختلفة الناتجة عن عدم قدرة التحمل لمتطلبات العمل، مما جعل المتخصصين في مجال الصحة العامة والنفسية يتجهون لدراستها في المصانع الكبرى، ومعرفة العبء الزائد على الفرد وتقديره كمياً.
لقد أدت هذه الحركة إلى المطالبة بتحسين ظروف العمل، وتخفيض شدة الضغوط الناجمة عن العمل ودفع التعويضات العالية للعمال المصابين بحوادث العمل أو المعرضين للإجهاد بسبب ضغوط العمل.
إن الضغوط والإجهاد في العمل مرتفع جداً بالنسبة للعمال وعائلاتهم في الولايات المتحدة وأوربا. ففي بعض الدول الصناعية في أوربا وأمريكا الشمالية، أثبتت بعض الدراسات أن 43% من حوادث العمل كانت بسبب الأخطاء الناتجة عن عوامل أربعة:
التعب، جو العمل، كثافة العمل، المشاكل العائلية. (ستورا: 41).
إن الضغوط التي تتعرض لها بعض الممرضات في مهنهن كثيرة ومنهكة، حيث تعد هذه المهنة من المهن الشاقة وخاصة في أقسام الطوارئ فضلاً عن عملهن في أوقات مختلفة وساعات طويلة، وتلك الساعات تعزلهن عن وتيرة الحياة الاجتماعية، أما أقسام العمل الأخرى وخاصة تلك التي يزداد فيها المرضى المحتضرون، وهم داخل غرفهم.. هذا الحضور والمشهد يصدم الناظر باستمرار، والموت ماثل دائماً، هذا الحضور الدائم للموت يثير عند الممرضة إجهاداً دائماً وبشكل يومي. (ستورا: 46).
لذا تعد مهنة التمريض من المهن الصعبة في ساعات العمل ونوعيته، والتعامل مع المترددين على المصحات العلاجية، وهكذا تشكل الضغوط بأنواعها إجهاداً على الإنسان في عمله، ولكن تبقى الفكرة الدينية القائلة بأن العمل واجب مقدس، وهي فكرة شائعة اليوم في معظم المجتمعات وقد أثبتت معظم الدراسات أن الإنسان بلا عمل يتعرض أيضاً للضغوط وهي الناجمة عن البطالة. أما الضغوط الناجمة عن العمل، فهي الإرهاق بفعل ساعات العمل الطويلة، ونوعيته وأوقاته المختلفة. وفي كلتا الحالتين يؤدي الضغط إلى ارتفاع مستوى الهرمونات المرتبطة بالتوتر، فتكون هناك شكوى من حالات مرضية كثيرة.
الضغوط التي تتعرض لها المرأة
لقد تغير دور المرأة جذرياً خلال الربع الأخير من القرن العشرين في مجتمعاتنا العربية، فقد أصبحت المرأة تشارك أسرتها في تحمل المسؤولية ويقع عليها أيضاً عبء الحياة من خلال معايشتها مع أسرتها إن كانت غير متزوجة، أو متزوجة فهي تتحمل أكثر بمشاركة الزوج طموحاته إضافة إلى زيادة مصادر الضغوط الناتجة عن الواجبات المنزلية وتربية الأولاد وتوفير الراحة للعائلة في الأوضاع الاعتيادية، أو في حالات الأزمات، وخاصة ونحن نعيش في مجتمعات عصفت بها الأزمات وابتعدت عن الاستقرار والتماسك نتيجة اتساع الطموحات.. فأصبح البحث عن مكان آمن، وإيجاد متنفس للتعبير عن الرأي الشاغل الأهم لدى الرجل والمرأة.
إذن عانت المرأة كثيراً بقدر معاناة الرجل من حيث عدم الاستقرار والتهجير وعدم الشعور بالأمان والبحث الدائب عن المستقبل الأمين. فإذا كانت ردود الأفعال لدى الرجال تتضح بحالات التجهم والكآبة الطارئة، والتحدث بصوت مسموع وهو يمشي في الشارع (هلوسة)، فعند المرأة تظهر على شكل أعراض جسمية مثل انقطاع الطمث، وارتباك العادة الشهرية، والتوترات التي تعتري مرحلة ما قبل الحيض، والصداع، وحالات الانهيار ما بعد الولادة، والاكتئاب، وظهور أعراض سن اليأس المبكر. ومن الأعراض الظاهرة المصاحبة للاضطرابات، فقدان الشهية للطعام، أو الشراهة، أو أعراض عصاب الفم. فالنساء إذن معرضات لصنفين من الضغوط:
- ضغوط تتعلق بهويتهن البيولوجية.
- ضغوط تتعلق بالممارسة الأسرية. (ستورا: 49).
إن المرأة حينما تتعرض للضغوط الناتجة عن دورها البيولوجي، وما يرافقه من تشنجات وأعراض كسرعة التأثر والغضب، أو اختلال في ساعات النوم، أو حالات الصداع المستمر، ما هي إلا نتائج لتلك الضغوط التي ما عادت تقوى على تحملها، وبالتالي تضعف لديها المقاومة الجسدية، وبمرور الزمن تنهار المقاومة وتكون عرضة للأمراض بأنواعها. وربما تؤدي بها إلى الموت.
أما الضغوط الناتجة عن الدور الأسري ومحاولة التشبث بما أمكن من تماسك الأسرة في مثل هذه الظروف التي تمر بها، والانتقالات المستمرة في السكن أو بين البلدان، أو حتى الإحساس بعدم الاستقرار للعائلة، يشكل بحد ذاته ضغطاً كبيراً على رب الأسرة، وضياع الهدف، وضبابية المستقبل للعائلة ... وهو يشكل لدى المرأة الجزء الأكبر من هذه المعضلة، تمتص مخاوف الرجل من خلال إضفاء الأمان على أفراد الأسرة وتبديد مشاعر الخوف.
إن المرأة عندما تأخذ هذا الدور داخل الأسرة، إنما تشارك بشكل فعال في الحفاظ على قوة الأسرة في مواجهة ضغوط الحياة بأشكالها الاقتصادية والمالية، والضغوط الناتجة عن عدم وضوح الرؤية للمستقبل، والبحث الدائم عن الاستقرار.
الخاتمـــــــــة
ترتبط الضغوط بالأحداث اليومية، فنحن بلا استثناء نتعرض لها يومياً ومن مصادر مختلفة، فالضغوط الخارجية تلاحقنا في البيت أو الشارع أو العمل أو الدراسة أو التعاملات المالية وتسبب لنا بعض الأحيان أزمات نقف عاجزين أمام حلها، نضطر لأن نبحث عن سبيل لحلها. وربما تتعقد هذه الضغوط وخاصة الاجتماعية، فيسعى الفرد لحلها، وتولد له ارتجاجاً يعجز عن قلبه إلى اتزان، فيعاني مرارة الإحباط، وخاصة عندما تنشأ عن مطالب اجتماعية منحرفة (أسعد: 102) ويكون الطموح أكثر من القدرة على التنفيذ، فيقف عاجزاً عن إيجاد الحلول.
إن الضغوط الداخلية تمثل تفاعلات الحالة النفسية للإنسان من داخل ذاته هو، فالنفس الإنسانية أثناء جهادها للمعرفة عما يدور بداخلها هو جهاد ليس سهلاً، بل عصي على النفس ذاتها وخاصة عندما يقف الفرد أمام نفسه لا يستطيع أن يجد حلاً يريح ذلك الصراع، فإذا ما عرف الإنسان نفسه، وصل بها إلى الاستقرار والراحة النفسية.. ومعرفة النفس مطلب كل إنسان حكيم يبحث لنفسه عن السبيل الصحيح ويقول (زيور) في ذلك: إذا عرفت استطعت
لا يوجد حالياً أي تعليق