حكايات جدتى

كان فى مدينة بغداد ثلاث صبايا ليس كمثلهن فى الأدب والجمال والكمال ، اكبرهن واجملهن بيضاء واسمها بيضاء ، واوسطهن قمحية واسمها سمراء ، واصغرهم خمرية واسمها شقراء ، وكانت الصبايا يعشن مع ابيهم فى دارآ مليحة ، لها رحبة فسيحة ، عالية البنيان ، مشيدة الأركان ، بابها من الأبنوس مصفح بصفائح النحاس الأحمر، وكانت الدار تطل على بحيرة صغيرة بعيدة عن الأنظار ، فكانت الصبايا تسبحن فيها فلا يراهن احد . وقد سافر ابوهم فى رحلة للتجارة فى بلاد السند والهند، واوصاهم بان لا يدخل عليهن احد ، ولا تخرج منهن واحدة إلا لضرورة ، حتى يعود من تجارته ، وكانت الصبايا حريصات على تنفيذ وصية ابيهن ، وكان لشيخ التجار ولدان شابان فى حسن وبهاء ، احدهما صالح ذو اخلاق حميدة واسمه شديد ، والأخر فاسق ذو اخلاق زميمة واسمه شداد ، علم شداد من الماشطة ، بكمال حسن الصبايا ، وان اكبرهن ليس لها مثيل فى الحسن والجمال بين صبايا بغداد ، وكان شداد عظيم الخبث والدهاء ، فلما علم بخروج ابيهن للتجارة ، دبر للإيقاع بهن فى غيابه ، فوقف يراقب الدر عن بعد ، وفى الصباح خرجت من الدار ، صبية بإزار موصلي من حرير مزركش بالذهب وحاشيتاه من قصب ، قد اسدلت على وجهها ما يحجبه ، فقال لنفسه لعلها احداهن ، فتتبعها على غفلة منها ، حتى وصلت الى السوق وإستأجرت حمالآ ، ثم تجولت فى السوق وكلما اشترت شىء دفعت به الى الحمال ، حتى انتهت ، ثم عادت الى الدار والحمال يتبعها ، وفى صباح اليوم التالى ، تصنع شداد انه حمال ، وجلس فى السوق الى جوار قفصه ، وانتظر قدومها لتستأجره ، فلما رأها قال لها: اتريدين حمالآ يامولاتى ، فقالت بحلاوة لفظها: هات قفصك واتبعني . فحمل شداد القفص وتبعها ، ثم تجولت فى السوق وكلما اشترت شىء دفعت به اليه فوضعه فى القفص ، حتى انتهت ، ثم عادت الى الدار وهو يتبعها ، فدقت الباب دقاً لطيفاً فانفتح الباب بشقيه . ونظر شداد إلى من فتحت الباب فوجدها صبية قد اسدلت على وجهها ما يحجبه ، فنظر اليها . فأعجبته هيئتها وكاد القفص أن يقع من فوق رأسه، وهو ينظر اليها ، وهى غافلة عن نظراته ، فاغلقت الباب وجعلته يمشى امامهما وليس خلفهما ، حتى انتهوا إلى قاعة فسيحة مزركشة مليحة ذات تراكيب وشاذر وأثاث ومصاطب وسدلات وخزائن عليها الستور مرخيات، ونوافذ عليها ستائر الأطلس الأحمر، فقالت له سمراء: حط عن رأسك القفص ، واخذنا يفرغنا ما في القفص ، وهو ينظر اليهن خلسة ، وهما لا يلتفتان لنظراته ، فلما تم افراغ القفص ، اعطته سمراء اربع دراهم وقالت له: توجه يا حمال ، ولكن شداد لم يتوجه وقال لسمراء وهو يشخص ببصره الى الأرض: هل تأذن مولاتى لى ان ابدى نصيحة قبل ان اتوجه ، فقالت له: تكلم ، فقال: يامولاتى هذا بيت اصول ، ومثلكن اميرات ، لايذهبن الى السوق ، فإنما السوق للعبيد والجوارى ، ودار سيدى يزيد لا ينبغى ان تكون بدون حارس فى غيابه ، فقالت له: ومن اعلمك بأبينا ، فقال: يامولاتى انا حمال وسيدى يزيد من كبار التجار ، وكل من فى بغداد يعلم ان هذه الدار داره ، فقالت له: انتظر ، ودخلت فأبلغت بيضاء بالأمر فأقبلت ، وقد اسدلت على وجهها ما يحجبه ، فقال شداد فى نفسه: هذه الثالثة التى ليس كمثلها فى بغداد ، فقالت له بيضاء: قد علمت ما قلت فأكمل كلامك ، فقال: يامولاتى إن اتخذتمونى حارسآ ، فهذه الدراهم الأربعة هى اجرتى طوال اليوم ، فلن اكلفكم شىء ، واحضر لكم حاجاتكم من السوق ، وتمكث الأميرة فى الدار معززة مكرمة كمثلها من الأميرات، وعندى كلب مدرب ، اطلقه ليلآ واحبسه نهارآ ، وقد لاحظت وجود حجرة صغيرة جوار الباب وهى خارج الدار ، فأبيت فيها ، هذه نصيحتى قبل ان اتوجه ، فقالت له بيضاء وقد ابهرتها حجته وكلامه: إنتظر بالخارج حتى نتفحص كلامك . فإنصرف خارج الدار واغلقت شقراء الباب .
نظرت كل واحدة منهن للأخرى فقالت سمراء: كلامه قوى الحجة ، وقالت شقراء: يحرس الباب ويحضر لنا حاجاتنا من السوق ، فيريح سمراء ، ولن يكلفنا شىء ، فقالت بيضاء: اظنه شاب مؤدب ، فنظره لم يرتفع عن الأرض . وارى انه لا مانع من وجوده خارج الدار . وطلبت من شقراء ان تدخله لسماع القرار، فخرجت وأخبرته ، ففرح وأطمئن لنجاح خطته . ولما وقف امام بيضاء قالت له: لا مانع من وجودك حاس للدار ، بشرط عدم دخولك للدار مطلقآ ، مهما كانت الأسباب ، ولا تفعل إلا ماامرك به ، فأنا صاحبة الأمر والنهى فى هذه الدار ، فقال: يامولاتى ان للبيوت حرمات لا تخفى على احد ، فقالت له: حاجاتنا اليومية مثل ما اشترت مولاتك اليوم ، وان زاد عليها شىء فسوف تخبرك ، فقم بشرائها ، ثم ضعها فى المطبخ ، وستجد ثمن مشتريات الغد على مائدة المطبخ فتأخذه وتنصرف ، ولا يكون دخولك المطبخ إلا من الباب الأخر المطل على الرحبة ، ولا تدخل الى الدار مهما كانت الأسباب ، واعطته ثمن مشتريات الغد . فقال شداد: سمعآ وطاعة يا مولاتى . وذهب فأحضر كلب حراسته ، ومكث فى حراسته طوال الليل ، يستطلع المكان ، ويفكر كيف يحكم خطته للإيقاع بالصبايا الغافلات،